سورة الرحمن - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرحمن)


        


{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)}
وفيه وجوه كثيرة حتى قيل: إن في القرآن ثلاث آيات في كل آية منها مائة قول الأولى: قوله تعالى: {فاذكرونى أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152].
الثانية: قوله تعالى: {إن عُدتُّمْ عُدْنَا} [الإسراء: 8].
الثالثة: قوله تعالى: {هَلْ جَزَاء الإحسان إِلاَّ الإحسان} ولنذكر الأشهر منها والأقرب.
أما الأشهر فوجوه:
أحدها: هل جزاء التوحيد غير الجنة، أي جزاء من قال: لا إله إلا الله إدخال الجنة ثانيها: هل جزاء الإحسان في الدنيا إلا الإحسان في الآخرة ثالثها: هل جزاء من أحسن إليكم في الدنيا بالنعم وفي العقبى بالنعيم إلا أن تحسنوا إليه بالعبادة والتقوى، وأما الأقرب فإنه عام فجزاء كل من أحسن إلى غيره أن يحسن هو إليه أيضاً، ولنذكر تحقيق القول فيه وترجع الوجوه كلها إلى ذلك، فنقول: الإحسان يستعمل في ثلاث معان أحدها: إثبات الحسن وإيجاده قال تعالى: {فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64] وقال تعالى: {الذى أَحْسَنَ كُلَّ شَيء خَلَقَهُ} [السجدة: 7] ثانيها: الإتيان بالحسن كالإظراف والإغراب للإتيان بالظريف والغريب قال تعالى: {مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] ثالثها: يقال: فلان لا يحسن الكتابة ولا يحسن الفاتحة أي لا يعلمهما، والظاهر أن الأصل في الإحسان الوجهان الأولان والثالث مأخوذ منهما، وهذا لا يفهم إلا بقرينة الاستعمال مما يغلب على الظن إرادة العلم، إذا علمت هذا فنقول: يمكن حمل الإحسان في الموضعين على معنى متحد من المعنيين ويمكن حمله فيهما على معنيين مختلفين أما الأول: فنقول: {هَلْ جَزَاء الإحسان} أي هل جزاء من أتى بالفعل الحسن إلا أن يؤتى في مقابلته بفعل حسن، لكن الفعل الحسن من العبد ليس كل ما يستحسنه هو، بل الحسن هو ما استحسنه الله منه، فإن الفاسق ربما يكون الفسق في نظره حسناً وليس بحسن بل الحسن ما طلبه الله منه، كذلك الحسن من الله هو كل ما يأتي به مما يطلبه العبد كما أتى العبد بما يطلبه الله تعالى منه، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين} [الزخرف: 71] وقوله تعالى: {وَهُمْ فِيمَا اشتهت أَنفُسُهُمْ خالدون} [الأنبياء: 102] وقال تعالى: {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى} [يونس: 26] أي ما هو حسن عندهم وأما الثاني فنقول: هل جزاء من أثبت الحسن في عمله في الدنيا إلا أن يثبت الله الحسن فيه وفي أحواله في الدارين وبالعكس هل جزاء من أثبت الحسن فينا وفي صورنا وأحوالنا إلا أن نثبت الحسن فيه أيضاً، لكن إثبات الحسن في الله تعالى محال، فإثبات الحسن أيضاً في أنفسنا وأفعالنا فنحسن أنفسنا بعبادة حضرة الله تعالى، وأفعالنا بالتوجه إليه وأحوال باطننا بمعرفته تعالى، وإلى هذا رجعت الإشارة، وورد في الأخبار من حسن وجوه المؤمنين وقبح وجوه الكافرين وأما الوجه الثالث: وهو الحمل على المعنيين فهو أن تقول: على جزاء من أتى بالفعل الحسن إلا أن يثبت الله فيه الحسن، وفي جميع أحواله فيجعل وجهه حسناً وحاله حسناً، ثم فيه لطائف:
اللطيفة الأولى: هذه إشارة إلى رفع التكليف عن العوام في الآخرة، وتوجيه التكليف على الخواص فيها أما الأول: فلأنه تعالى لما قال: {هَلْ جَزَاء الإحسان إِلاَّ الإحسان} والمؤمن لا شك في أنه يثاب بالجنة فيكون له من الله الإحسان جزاء له ومن جازى عبداً على عمله لا يأمره بشكره، ولأن التكليف لو بقي في الآخرة فلو ترك العبد القيام بالتكليف لاستحق العقاب، والعقاب ترك الإحسان لأن العبد لما عبد الله في الدنيا ما دام وبقي يليق بكرمه تعالى أن يحسن إليه في الآخرة ما دام وبقي، فلا عقاب على تركه بلا تكليف وأما الثاني فنقول: خاصة الله تعالى عبدنا الله تعالى في الدنيا لنعم قد سبقت له علينا، فهذا الذي أعطانا الله تعالى ابتداء نعمة وإحسان جديد فله علينا شكره، فيقولون الحمد لله، ويذكرون الله ويثنون عليه فيكون نفس الإحسان من الله تعالى في حقهم سبباً لقيامهم بشكره، فيعرضون هم على أنفسهم عبادته تعالى فيكون لهم بأدنى عبادة شغل شاغل عن الحور والقصور والأكل والشرب فلا يأكلون ولا يشربون ولا يتنابذون ولا يلعبون فيكون حالهم كحال الملائكة في يومنا هذا لا يتناكحون ولا يلعبون، فلا يكون ذلك تكليفاً مثل هذه التكاليف الشاقة، وإنما يكون ذلك لذة زائدة على كل لذة في غيرها.
اللطيفة الثانية: هذه الآية تدل على أن العبد محكم في الآخرة كما قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا فاكهة وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ} [يس: 57] وذلك لأنا بينا أن الإحسان هو الإتيان بما هو حسن عند من أتى بالإحسان، لكن الله لما طلب منا العبادة طلب كما أراد، فأتى به المؤمن كما طلب منه، فصار محسناً فهذا يقتضي أن يحسن الله إلى عبده ويأتي بما هو حسن عنده، وهو ما يطلبه كما يريد فكأنه قال: {هَلْ جَزَاء الإحسان} أي هل جزاء من أتى بما طلبته منه على حسب إرادتي إلا أن يؤتى بما طلبه مني على حسب إرادته، لكن الإرادة متعلقة بالرؤية، فيجب بحكم الوعد أن تكون هذه آية دالة على الرؤية البلكفية.
اللطيفة الثالثة: هذه الآية تدل على أن كل ما يفرضه الإنسان من أنواع الإحسان من الله تعالى فهو دون الإحسان الذي وعد الله تعالى به لأن الكريم إذا قال للفقير: افعل كذا ولك كذا ديناراً، وقال لغيره افعل كذا على أن أحسن إليك يكون رجاء من لم يعين له أجراً أكثر من رجاء من عين له، هذا إذا كان الكريم في غاية الكرم ونهاية الغنى، إذا ثبت هذا فالله تعالى قال: جزاء من أحسن إلى أن أحسن إليه بما يغبط به، وأوصل إليه فوق ما يشتهيه فالذي يعطي الله فوق ما يرجوه وذلك على وفق كرمه وإفضاله.


{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67)}
لما ذكر الجزاء ذكر بعده مثله وهو جنتان أخريان، وهذا كقوله تعالى: {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] وفي قوله تعالى: {دُونِهِمَا} وجهان:
أحدهما: دونهما في الشرف، وهو ما اختاره صاحب الكشاف وقال قوله: {مُدْهَامَّتَانِ} مع قوله في الأوليين: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن: 48] وقوله في هذه: {عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} مع قوله في الأوليين: {عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} [الرحمن: 50] لأن النضخ دون الجري، وقوله في الأولين: {مِن كُلّ فاكهة زَوْجَانِ} [الرحمن: 52] مع قوله في هاتين: {فاكهة وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] وقوله في الأوليين: {فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} حيث ترك ذكر الظهائر لعلوها ورفعتها وعدم إدراك العقول إياها مع قوله في هاتين: {رَفْرَفٍ خُضْرٍ} [الرحمن: 76] دليل عليه، ولقائل أن يقول: هذا ضعيف لأن عطايا الله في الآخرة متتابعة لا يعطي شيئاً بعد شيء إلا ويظن الظان أنه ذلك أو خير منه. ويمكن أن يجاب عنه تقريراً لما اختاره الزمخشري أن الجنتين اللتين دون الأولين لذريتهم اللذين ألحقهم الله بهم ولأتباعهم، ولكنه إنما جعلهما لهم إنعاماً عليهم، أي هاتان الأخريان لكم أسكنوا فيهما من تريدون الثاني: أن المراد دونهما في المكان كأنهم في جنتين ويطلعوا من فوق على جنتين أخريين دونهما، ويدل عليه قوله تعالى: {لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ} [الزمر: 20] الآية. والغرف العالية عندها أفنان، والغرف التي دونها أرضها مخضرة، وعلى هذا ففي الآيات لطائف:
الأولى: قال في الأوليين: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} وقال في هاتين: {مُدْهَامَّتَانِ} أي مخضرتان في غاية الخضرة، وإدهام الشيء أي اسواد لكن لا يستعمل في بعض الأشياء والأرض إذا اخضرت غاية الخضرة تضرب إلى أسود، ويحتمل أن يقال: الأرض الخالية عن الزرع يقال لها: بياض أرض وإذا كانت معمورة يقال لها: سواد أرض كما يقال: سواد البلد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالسواد الأعظم ومن كثر سواد قوم فهو منهم» والتحقيق فيه أن ابتداء الألوان هو البياض وانتهاءها هو السواد، فإن الأبيض يقبل كل لون والأسود لا يقبل شيئاً من الألوان، ولهذا يطلق الكافر على الأسود ولا يطلق على لون آخر، ولما كانت الخالية عن الزرع متصفة بالبياض واللاخالية بالسواد فهذا يدل على أنهما تحت الأوليين مكاناً، فهم إذا نظروا إلى ما فوقهم، يرون الأفنان تظلهم، وإذا نظروا إلى ما تحتهم يرون الأرض مخضرة، وقوله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} أي فائرتان ماؤهما متحرك إلى جهة فوق، وأما العينان المتقدمتان فتجريان إلى صوب المؤمنين فكلاهما حركتهما إلى جهة مكان أهل الإيمان، وأما قول صاحب الكشاف: النضخ دون الجري فغير لازم لجواز أن يكون الجري يسيراً والنضخ قوياً كثيراً، بل المراد أن النضخ فيه الحركة إلى جهة العلو، والعينان في مكان المؤمنين، فحركة الماء تكون إلى جهتهم، فالعينان الأوليان في مكانهم فتكون حركة مائهما إلى صوب المؤمنين جرياً.


{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69)}
فهو كقوله تعالى: {فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة زَوْجَانِ} [الرحمن: 52] وذلك لأن الفاكهة أرضية نحوه البطيخ وغيره من الأرضيات المزروعات وشجرية نحو النخل وغيره من الشجريات فقال: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64] بأنواع الخضر التي منها الفواكه الأرضية وفيهما أيضاً الفواكه الشجرية وذكر منها نوعين وهما الرمان والرطب لأنهما متقابلان فأحدهما حلو والآخر غير حلو وكذلك أحدهما حار والآخر بارد وأحدهما فاكهة وغذاء، والآخر فاكهة، وأحدهما من فواكه البلاد الحارة والآخر من فواكه البلاد الباردة، وأحدهما أشجاره في غاية الطول والآخر أشجاره بالضد وأحدهما ما يؤكل منه بارز ومالا يؤكل كامن، والآخر بالعكس فهما كالضدين والإشارة إلى الطرفين تتناول الإشارة إلى ما بينهما، كما قال: {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} [الرحمن: 17] وقدمنا ذلك.

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14